الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد, الحمد لله الذي قال في كتابه الكريم: “وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ“ (البقرة: 217). والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله، الذي بيّن لنا بسنته وآرائه سبيل العودة إلى الله والتوبة من المعاصي، وفتح لنا أبواب الرحمة التي لا تغلق. “فيمت وهو كافر”، قال أبو جعفر: من يرجع عن دينه دين الإسلام،” فيمت وهو كافر “، فيمت قبل أن يتوب من كفره، فهم الذين حبَطت أعمالهم.
الردة، التي هي الرجوع عن دين الإسلام إلى الكفر، تعتبر من أكبر الكبائر التي يرتكبها الإنسان، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “أنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عنْه حَرَّقَ قَوْمًا، فَبَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقالَ: لو كُنْتُ أنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ؛ لأنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: لا تُعَذِّبُوا بعَذَابِ اللَّهِ، ولَقَتَلْتُهُمْ، كما قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: مَن بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ.” الراوي : عبدالله بن عباس | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري الصفحة أو الرقم: 3017 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح] التخريج : من أفراد البخاري على مسلم.
لكن، مع كل هذه الخطورة التي تكتنف الردة، فإن الإسلام لا يغلق أبواب التوبة أمام من وقع في الردة، بل شرع له طريقًا للرجوع إلى الدين الحق، هذا الطريق الذي يتطلب الندم والإقرار بالشهادتين والعمل الصادق للتكفير عن ما مضى. في هذا المقال، سنعرض كيفية العودة للإسلام من الردة، وكيف يمكن للمرتد أن يتوب ويعود إلى ربه، مستندين في ذلك إلى الأدلة القرآنية، الأحاديث النبوية، وأقوال السلف الصالح والعلماء الأجلاء من أهل السنة والجماعة.

مفهوم الردة في الإسلام
الرِّدَّةُ في اللغةِ تعني الرجوعُ من شيءٍ إلى شيءٍ آخر، وهي مأخوذة من الجذر اللغوي ‘ردَّ’ الذي يعني الرجوع أو العود. أما في الاصطلاحِ، فإنَّ الرِّدَّةَ تعني قطعَ صلةِ الشخص بالإسلام عن عمدٍ، وذلك من خلال الإيمان بالكفر أو ترك أحد الأعمال الصالحة التي لا يصحُّ الإيمان إلا بها، وخاصة الصلاة، أو قولَ كلمةِ كفرٍ، أو فعلَ فعلٍ يندرج تحت الكفر، سواء كان ذلك عن سخريةٍ، أو عنادٍ، أو عن اعتقادٍ.
في قوله تعالى: “وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ” (البقرة: 217).
قال ابن جرير: يعني بقول الله تعالى: “وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ” [البقرة: 217]، أي من يرجع عن دينه، كما ورد في قوله تعالى: “فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا” [الكهف: 64]، حيث يدل قول “فَارْتَدَّا“على الرجوع. ومن هنا قيل: “استردَّ فلانٌ حقَّه” أي استرجعه منه. وذكر أيضاً في قوله: “فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ” [البقرة: 217]، أي من يرجع عن دينه، فيموت وهو كافر، قبل أن يتوب من كفره. هؤلاء هم الذين حبطت أعمالهم، أي أن أعمالهم بَطُلَت ولم يعد لها ثواب، فلا أجر عليها في الدنيا والآخرة. ثم قال: “وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ” [البقرة: 217]، أي الذين ارتدوا عن دينهم وماتوا على كفرهم، هم أهل النار التي سيخلدون فيها، لا يخرجون منها أبداً كما يقال: “هؤلاء أهل محلة كذا” أي سكانها المقيمون فيها.
كما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من بَدَّل دينَه فاقتُلوه” أخرجه البخاري (3017)، قال ابن عبد البر: “فِقْهُ هذا الحديثِ أنَّ مَنِ ارتَدَّ عن دينِه حَلَّ دَمُه وضُرِبَت عُنُقُه، والأُمَّةُ مجتَمِعةٌ على ذلك.” (التمهيد) (5/ 306). وقال ابن قدامة: “الرِّدَّةُ لا تَصِحُّ إلَّا من عاقلٍ، فأمَّا من لا عَقْلَ له، كالطِّفلِ الذي لا عَقْلَ له، والمجنونِ، ومن زال عَقلُه بإغماءٍ، أو نومٍ، أو مَرَضٍ، أو شُربِ دواءٍ يباحُ شُربُه؛ فلا تَصِحُّ رِدَّتُه، ولا حُكمَ لكلامِه، بغيرِ خِلافٍ.” (المغني) (12/266).
وقال زينُ الدِّين بنُ عبدِ العزيزِ المليباريُّ:” الرِّدَّةُ لغةً: الرُّجوعُ، وهي أفحَشُ أنواعِ الكُفْرِ، ويَحبَطُ بها العَمَلُ، وشَرعًا «قَطعُ مكلَّفٍ» مختارٍ، فتلغو من صبيٍّ ومجنونٍ ومُكرَهٍ عليها، إذا كان قَلْبُه مُؤمِنًا، «إسلامًا بكُفرٍ عزمًا» حالًا أو مآلًا، فيكفُرُ به حالًا «أو قَولًا أو فعلًا، باعتقادٍ» لذلك الفِعْلِ أو القولِ، أي: معه «أو» مع «عنادٍ» من القائِلِ أو الفاعِلِ، «أو» مع «استهزاءٍ» أي: استخفافٍ، بخلافِ ما لو اقترن به ما يخرِجُه عن الرِّدَّة، كسَبْقِ لسانٍ، أو حكايةِ كُفرٍ أو خَوفٍ.” (فتح المعين) (4/132).
كيفية العودة إلى الإسلام بعد الردة
1. التوبة الصادقة
العودة إلى الإسلام تبدأ بالتوبة، والتوبة في الإسلام تعني الرجوع إلى الله مع الندم على ما مضى من أعمال الكفر والذنب، والعزم على عدم العودة إليها. وقد بيّن العلماء أن التوبة من الردة تكون بإتيان الشخص بالشهادتين، وهي أول وأهم خطوة على طريق العودة. قال الإمام الرحيباني في “مطالب أولي النهى”: “توبة المرتد تكون بإتيانه بالشهادتين، لحديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي ذكر فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكنيسة فسمع يهوديًا يقرأ عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: “أشهد أن لا إله إلا الله وأنت رسول الله.” (رواه أحمد). والشهادتين تعني النطق بهما بكل إخلاص وصدق، حيث يُعلن الشخص أمام الله والناس أنه لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله.
وفي زاد المستقنع: “وتوبة المرتد وكل كافر إسلامه، بأن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ومن كفر بجحد فرض ونحوه فتوبته مع الشهادتين إقراره بالمجحود به، أو قول: أنا بريء من كل دين يخالف دين الإسلام.“
2. إقرار المرتد بما جحده
إذا كانت الردة قد حدثت بسبب جحد أحد أركان الإيمان، مثل جحد الصلاة أو الزكاة أو صوم رمضان، فيجب على المرتد أن يُقر بما جحده. يقول الإمام أحمد بن حنبل: “إذا كان الكافر قد جحد فرضًا من فروض الإسلام أو تركه عمدًا، فيجب عليه أن يقر بما جحده ويؤديه بعد التوبة.” فإذا كان مرتكب الردة قد أنكر وجوب الصلاة، على سبيل المثال، يجب عليه أن يعترف أن الصلاة فرض على المسلم ويعود إليها فورًا.
3. أداء الفرائض بعد التوبة
بعد النطق بالشهادتين، يجب على الشخص الذي عاد إلى الإسلام أن يُؤدي العبادة بشكل صحيح. من هذه العبادة الصلاة، وهي الركن الثاني من أركان الإسلام. وقال الإمام الشافعي في “المهذب”: “إذا أسلم الكافر يجب عليه أن يصلي فورًا، لأن الصلاة من أركان الإسلام التي لا يمكن للمرء أن يثبت إسلامه إلا بها.” وأيضًا من المهم أن يعود المسلم الذي تاب إلى الإسلام إلى جميع العبادات الأخرى مثل الصيام والزكاة، ويجدد علاقته مع الله تعالى بالقيام بالطاعات.
شروط التوبة من الردة وأحكامها
1. الشهادتين هي أساس التوبة
من شروط توبة المرتد هو إقراره بالشهادتين، ويُعتبر هذا النطق بإعلان الإسلام من أولى الخطوات للعودة. قال في “زاد المستقنع”: “وتوبة المرتد تكون بالشهادتين، وهذه هي الطريقة الشرعية لعودته للإسلام.” وذلك بناءً على الحديث الصحيح الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، ويُقِيمُوا الصَّلَاةَ، ويُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذلكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وأَمْوَالَهُمْ إلَّا بحَقِّ الإسْلَامِ، وحِسَابُهُمْ علَى اللَّهِ.” الراوي : عبدالله بن عمر | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري الصفحة أو الرقم: 25 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح] التخريج : أخرجه مسلم (22) باختلاف يسير.
قال الرحيباني: “(وَتَوْبَةُ مُرْتَدٍّ) إتْيَانُهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ (وَ) تَوْبَةُ (كُلِّ كَافِرٍ) مِنْ كِتَابِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ (إتْيَانُهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ)؛ أَيْ: قَوْلُهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْكَنِيسَةَ، فَإِذَا بِيَهُودِيٍّ يَقْرَأُ عَلَيْهِمْ التَّوْرَاةَ، فَقَرَأَ حَتَّى أَتَى عَلَى صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ، فَقَالَ: هَذِهِ صِفَتُك وَصِفَةُ أُمَّتِك، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّك رَسُولُ اللَّهِ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: لوا أَخَاكُمْ» رَوَاهُ أَحْمَدُ.“
ويكتفى منه في قبول التوبة ظاهرًا النطق بالشهادتين؛ ففي المبدع: “(وَتَوْبَةُ الْمُرْتَدِّ) وَكُلِّ كَافِرٍ (إِسْلَامُهُ، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا يَثْبُتُ بِهِ إِسْلَامُ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ، فَكَذَا الْمُرْتَدُّ، وَلَا يُحْتَاجُ مَعَ ثُبُوتِ إِسْلَامِهِ إِلَى الْكَشْفِ عَنْ صِحَّةِ رِدَّتِهِ.“
الصلاة تعد إسلاما، ويدخل بها الشخص في الإسلام
قال الرحيباني في مطالب أولي النهى: “(وَيَتَّجِهُ أَوْ) إتْيَانُهُ (بِصَلَاةِ رَكْعَةٍ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا. الْخَبَرَ؛ لِأَنَّهَا رُكْنٌ يَخْتَصُّ بِهِ الْإِسْلَامُ؛ فَحُكِمَ بِإِسْلَامِهِ كَالشَّهَادَتَيْنِ. قَالَ فِي شَرْحِ الْوَجِيزِ: وَلَا يَثْبُتُ الْإِسْلَامُ حَتَّى يَأْتِيَ بِصَلَاةٍ تَتَمَيَّزُ عَنْ صَلَاةِ الْكُهَّانِ، وَلَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْقِيَامِ.“
2. الندم والإقلاع عن المعصية
الندم على ما ارتكبه الشخص من معاصٍ هو شرط أساسي لقبول التوبة. فقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “التائبُ من الذنبِ كمن لا ذنبَ لهُ.” الراوي : عبدالله بن مسعود | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح ابن ماجه الصفحة أو الرقم: 3446 | خلاصة حكم المحدث : حسن التخريج : أخرجه ابن ماجة(4250 )،والطبراني في ((المعجم الكبير)) (10281 )، والقضاعي في ((مسند الشهاب)) (108 ).
إن الله سبحانه وتعالى هو التواب الرحيم، الغفور الكريم، وقد فتح لعباده باب رحمته الواسعة مهما عظُمت ذنوبهم وكثرت معاصيهم. ففي الحديث الشريف يروي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: “التائب من الذنب كمن لا ذنب له”. ومعناه أن من وقع في الذنب ثم رجع إلى الله بتوبة نصوح، أقلع عن الذنب، وندم عليه، واستغفر ربه ولم يعد إليه، فإن الله يقبل توبته ويعامله معاملة من لم يذنب قط، بل قد يبدّل سيئاته إلى حسنات، لما في قلبه من صدق الإنابة، ومحبة لله، وحرص على رضاه، وخوف من عقابه، وهذه من صفات المتقين. فإذا زال الذنب بالتوبة، زالت آثاره وعقوباته، وهذا الحكم يشمل كل من تاب توبة صادقة من أي ذنب.
وقد قال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
ولقبول التوبة شروط ثابتة مأخوذة من تتبع آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أهمها: أن تكون التوبة خالصة لله وحده دون رياء أو رغبة في مدح الناس، وأن يترك العبد المعصية فورًا، ويشعر بالندم الصادق على فعله، ويعزم على عدم العودة إليه، وإذا كانت المعصية تتعلق بحقوق الآخرين وجب ردها لأصحابها، كما يجب أن تكون التوبة قبل طلوع الشمس من مغربها، وقبل أن يُحضِر العبد الموت.
ومن علامات صدق التوبة: أن يصبح العبد بعدها أفضل حالًا مما كان عليه قبل الذنب؛ فيُكثر من الطاعات، ويصاحب أهل الخير، ويبتعد عن المعاصي وأهل الفساد، ويعيش دائمًا في خوف من مكر الله فلا يغتر ولا يطمئن لمكانه. وفي هذا الحديث دلالة واضحة على رحمة الله الواسعة بعباده، حيث فتح باب التوبة لمن أذنب قبل وفاته، وهو دعوة عظيمة لعدم اليأس من رحمته سبحانه، وتأكيد على أن التوبة النصوح تمحو الذنوب وتحوّل السيئات إلى حسنات.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: “الْإِنْسَان قد يستحضر ذنوبًا فيتوب مِنْهَا، وَقد يَتُوب تَوْبَة مُطلقَة لا يستحضر مَعهَا ذنُوبه، لَكِن إِذا كَانَت نِيَّته التَّوْبَة الْعَامَّة فهي تتَنَاوَل كل مَا يرَاهُ ذَنبًا، لِأَن التَّوْبَة الْعَامَّة تَتَضَمَّن عزمًا عَامًّا عَلى فعل الْمَأْمُور وَترك الْمَحْظُور، وكذلك تَتَضَمَّن ندمًا عَامًّا على كل مَحْظُور … إِذا عرف ذَلِك، فَمن تَابَ تَوْبَة عَامَّة كَانَت مقتضية لغفران الذُّنُوب كلهَا وَإِن لم يستحضر أَعْيَان الذُّنُوب، إِلَّا أَن يكون بعض الذُّنُوب لَو استحضره لم يتب مِنْهُ لقُوَّة إِرَادَته إِيَّاه، أَو لاعْتِقَاده أَنه حسن لَيْسَ قبيحًا، فَمَا كَانَ لَو استحضره لم يتب مِنْهُ لم يدْخل فِي التَّوْبَة بِخِلَاف مَا لَو كَانَ لَو استحضره لتاب مِنْهُ فَإِنَّهُ يدْخل فِي عُمُوم التَّوْبَة.“
3. الإقلاع عن الأعمال الكفرية
إذا كانت الردة قد حدثت بسبب أعمال كفرية أو شعائر تناقض الإسلام، يجب على الشخص أن يترك هذه الأعمال فورًا. إذا كان قد أتى بشرك أو سبّ للدين، فيجب عليه التوقف عن ذلك.
حكم الغسل والتوبة
من المسائل المهمة التي يطرحها العلماء هي مسألة الغسل. بعض العلماء يقولون أن المرتد يجب عليه الغسل بعد توبته إذا كان قد ارتكب ما يوجب الغسل في حال ردته. فغُسل المرتد لا يُعدّ شرطاً لصحة دخوله في الإسلام، بل إن نطق بالشهادتين فإسلامه يُعدّ صحيحاً. أما وجوب الغُسل عليه بعد توبته، فقد اختلف فيه أهل العلم، فمنهم من أوجب عليه الغسل على كل حال، ومنهم من لم يُوجب ذلك مطلقاً. وذهب فريق آخر إلى التفصيل، فقالوا إن كان قد فعل في حال ردته ما يستوجب الغسل، وُجِب عليه الغسل، أما إن لم يصدر منه ما يوجب الغسل، فلا يُطلب منه ذلك، وهذا هو مذهب الشافعية، وهو تفصيل جيد ومعقول.
وقال الإمام الشيرازي في “المهذب”: “وإذا أسلم الكافر ولم يجب عليه غسل في حال الكفر فالمستحب أن يغتسل ، لما روى : أنه أسلم قيس بن عاصم فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغتسل. ولا يجب ذلك لأنه أسلم خلق كثير ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالغسل، وإن وجب عليه غسل في حال الكفر ولم يغتسل لزمه أن يغتسل، وإن كان قد اغتسل في حال الكفر ، فهل يجب عليه إعادته فيه وجهان أحدهما : لا تجب إعادته لأنه غسل صحيح ، بدليل أنه تعلق به إباحة الوطء في حق الحائض إذا طهرت ، فلم تجب إعادته كغسل المسلم والثاني : تجب إعادته وهو الأصح لأنه عبادة محضة ، فلم تصح من الكافر في حق الله تعالى ، كالصوم والصلاة.”
وقال النووي مبينا رجحان هذا القول بعد ذكر الخلاف في المسألة: “احتج أصحابنا بما ذكره المصنف وهو أنه أسلم خلق كثير ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإغتسال ، ولأنه ترك معصية فلم يجب معه غسل كالتوبة من سائر المعاصي ، والجواب عن حديثيهما من وجهين أحدهما: حملهما على الاستحباب جمعا بين الأدلة ، ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم أمر قيسا أن يغتسل بماء وسدر واتفقنا على أن السدر غير واجب الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم علم أنهما أجنبا لكونهما كانت لهما أولاد، فأمرهما بالغسل لذلك لا للإسلام.“
كيف يرجع للإسلام من ارتد – الخاتمة
إن الردة عن الإسلام هي من أخطر الأمور التي تهدد إيمان المسلم، ولكن الإسلام لا يُغلق باب التوبة أبدًا. بل إنه يفتح أبواب الرحمة لكل من تاب عن ردته ورجع إلى دينه بالإقرار بالشهادتين، الندم على ما مضى، والقيام بالفرائض. إن التوبة من الردة تعد فرصة عظيمة للرجوع إلى الله، حيث يظل باب التوبة مفتوحًا حتى لحظة الموت.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “من دعا غير الله وحجّ إلى غير الله؛ هو أيضًا مشرك، والذي فعله كفر، لكن قد لا يكون عالمًا بأن هذا شرك محرّم، كما أن كثيرًا من الناس دخلوا في الإسلام من التتار وغيرهم، وعندهم أصنام لهم صغار من لبد وغيره، وهم يتقرّبون إليها ويعظّمونها، ولا يعلمون أن ذلك محرّم في دين الإسلام، ويتقرّبون إلى النار أيضًا، ولا يعلمون أن ذلك محرّم؛ فكثير من أنواع الشرك قد يخفى على بعض من دخل في الإسلام ولا يعلم أنه شرك، فهذا ضالّ وعمله الذي أشرك فيه باطل، لكن لا يستحقّ العقوبة حتى تقوم عليه الحجة؛ قال تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 22].“
نسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم التوبة، وأن يثبتنا على دينه الحق.
والله أعلم.