الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد, الحمد لله الذي جعل الأيام الفاضلة فرصًا للتقرب إليه، وجعل من يوم عرفة أعظمها وأحبها إلى الله تعالى. يوم عرفة هو يوم التكفير عن الذنوب، ويوم العتق من النار، ويوم الدعاء والاستغفار، وهو من أعظم الأيام التي خصها الله تعالى بفضائل كبيرة للمسلمين في شتى بقاع الأرض. في هذا اليوم المبارك، يلتقي المسلمون في صعيد واحد، حيث يقف الحجاج على جبل عرفة، يتضرعون إلى الله تعالى في صيام وطاعة ودعاء.
وقد قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم في سياق الحديث عن الأيام المباركة: “وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ لِمَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ“ (البقرة: 203)، وهي إشارة إلى فضل الأيام العشر من ذو الحجة، ويأتي يوم عرفة في قمتها. فهو اليوم الذي يكتمل فيه الركن الأعظم من مناسك الحج، ويعد يومًا عظيمًا في حياة المسلم.
أما المسلمون الذين لم يُيسر لهم الحج، فقد جعل الله لهم في صيام يوم عرفة فرصة عظيمة لتكفير ذنوبهم ومغفرة خطاياهم. فقد ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: “صَومُ يومِ عَرَفةَ يُكفِّرُ سَنتَينِ؛ ماضيةً ومُستقبَلةً، وصَومُ عاشوراءَ يُكفِّرُ سَنةً ماضيةً.” الراوي : أبو قتادة الحارث بن ربعي | المحدث : شعيب الأرناؤوط | المصدر : تخريج المسند لشعيب | الصفحة أو الرقم : 22535 | التخريج : أخرجه مسلم (1162) مطولاً، مما يدل على عظمة هذا اليوم وفضله، حيث يُكفّر الله تعالى به ذنوب سنتين.

وعن النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا قال: “ما مِن يَومٍ أَكْثَرَ مِن أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فيه عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِن يَومِ عَرَفَةَ، وإنَّه لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بهِمُ المَلَائِكَةَ، فيَقولُ: ما أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟” الراوي : عائشة أم المؤمنين | المحدث : مسلم | المصدر : صحيح مسلم الصفحة أو الرقم: 1348 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح] التخريج : أخرجه مسلم (1348)، وهذا يؤكد أن يوم عرفة هو يوم عظيم للمغفرة، حيث يُعتق الله فيه الرقاب من النار ويغفر للمسلمين ما مضى من ذنوبهم.
وفي هذا اليوم المبارك، يُستحب للمسلم الإكثار من الدعاء والتوبة، وفي الموطأ عن طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له.” وروى الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا النبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.” والحديث حسنه الألباني. فهو يوم استجابة الدعاء، إذ يفرغ المسلم قلبه لله عز وجل، سائلًا إياه المغفرة والرحمة.
وفي هذا المقال، سنتناول حكم صيام يوم عرفة وفقًا لما ورد في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وسنستعرض الأدلة الشرعية التي تبين فضل هذا اليوم، بالإضافة إلى أحكامه وكيفية صيامه، وذلك استنادًا إلى أقوال السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب الأربعة. كما سنبين فضل الدعاء في هذا اليوم، وعلاقته بعيد الأضحى، وما يترتب على المسلم من أعمال صالحة يجب أن يتحراها في هذا اليوم المبارك.
فضل يوم عرفة في الإسلام
يعد يوم عرفة من أعظم الأيام التي خصها الله تعالى بفضل عظيم في الشريعة الإسلامية، فهو من الأيام التي يُستحب فيها كثرة الطاعات والعبادات، وهو اليوم الذي يُغفر فيه الذنوب ويعتق فيه المسلمون من النار. وقد وردت العديد من الأدلة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة التي تشير إلى فضل هذا اليوم وعظمته.
عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا قال: “ما مِن يَومٍ أَكْثَرَ مِن أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فيه عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِن يَومِ عَرَفَةَ، وإنَّه لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بهِمُ المَلَائِكَةَ، فيَقولُ: ما أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟” الراوي : عائشة أم المؤمنين | المحدث : مسلم | المصدر : صحيح مسلم الصفحة أو الرقم: 1348 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح] التخريج : أخرجه مسلم (1348).
قال الله تعالى في كتابه العزيز: “وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ“ (البقرة: 197)، حيث تشير هذه الآية إلى أن الله تعالى يطلب من عباده الإكثار من الأعمال الصالحة في الأوقات المباركة، ويعد يوم عرفة من أعظم هذه الأوقات. ففي هذا اليوم تفتح أبواب الرحمة والمغفرة، ويتقبل الله تعالى توبة عباده الذين يكثرون فيه من الاستغفار والدعاء. يوم عرفة هو اليوم الذي يمحو الله فيه الخطايا ويغفر الذنوب، فهو يوم خاص بفضله العظيم، ومنه تبدأ أوقات التوبة الصادقة.
روى ابن خزيمة وابن حبان والبزار وأبو يعلى والبيهقي عن جابر رضي الله عنه، مرفوعاً أيضاً: “ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة، ينـزل الله تعالى إلى سماء الدنيا، فيباهي بأهل الأرض أهل السماء، فيقول: انظروا إلى عبادي، جاؤوني شعثاً غبراً ضاجِّين، جاؤوا من كل فج عميق، يرجون رحمتي، ولم يروا عقابي، فلم يُرَ يوماً أكثر عتقاً من النار، من يوم عرفة.”
وعند أحمد في “مسنده” وابن حبان في “صحيحه”، والحاكم في “مستدركه” من حديث أبي هريرة مرفوعاً: “إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء، فيقول لهم: انظروا إلى عبادي، جاؤوني شعثاً غبراً.“
وعند ابن عبد البر في “تمهيده” من رواية أنس رضي الله عنه، قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الخيف قاعداً، فأتاه رجل من الأنصار، ورجل من ثقيف، فذكر حديثاً فيه طول، وفيه: “وأما وقوفك عشية عرفة، فإن الله يهبط إلى سماء الدنيا، ثم يباهي بكم الملائكة، فيقول: هؤلاء عبادي جاءوني شعثاً سُفْعاً، يرجون رحمتي ومغفرتي؛ فلو كانت ذنوبكم كعدد الرمل، وكعدد القطر، وكزَبَد البحر، لغفرتُها، أفيضوا عبادي مغفوراً لكم، ولمن شفعتم له.“
أما في السنة النبوية، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: “الحج عرفة” (رواه الترمذي)، حيث يبين النبي صلى الله عليه وسلم أن يوم عرفة هو قلب مناسك الحج وأساسه. ففيه يقف المسلمون على صعيد جبل عرفة ويقومون بأداء أحد أهم أركان الحج، ويعد هذا اليوم من أقدس الأيام في الإسلام حيث يُغفر فيه الذنوب ويعتق المسلمون من النار.
وفي مصنف عبد الرزاق من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، في حديث الرجلين اللَّذين جاءا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسألانه عن أمر دينهم، وكان من جوابه لهما: “وأما وقوفك بعرفة، فإن الله تبارك وتعالى ينـزل إلى سماء الدنيا، فيباهي بهم الملائكة، فيقول: هؤلاء عبادي جاؤوا شعثًا غبرًا من كل فج عميق، يرجون رحمتي، ويخافون عذابي، ولم يروني، فكيف لو رأوني، فلو كان عليك مثل رمل عالج، أو مثل أيام الدنيا، أو مثل قطر السماء ذنوبًا، غسلها الله عنك.“
وروى ابن عبد البر أيضاً، بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: “وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات، وكادت الشمس أن تؤوب، فقال: (يا بلال! أنصت لي الناس) فقام بلال، فقال: أنصتوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنصت الناس، فقال: (معاشر الناس، أتاني جبريل آنفًا، فاقرأني من ربي السلام، وقال: إن الله غفر لأهل عرفات وأهل المشعر، وضمن عنهم التبعات) فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله، هذا لنا خاص، فقال: (هذا لكم، ولمن أتى بعدكم إلى يوم القيامة) فقال عمر رضي الله عنه: كثر خير الله وطاب.”
وخطب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بعرفة، فقال: “إنكم قد جئتم من القريب والبعيد، وأنضيتم الظهر – أي: أتعبتم رواحلكم -، وأخلقتم الثياب – أي: أبليتم ثيابكم -، وليس السابق اليوم من سبقت دابته وراحلته، وإنما السابق اليوم من غُفر له.“
وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر فضل يوم عرفة قائلاً: “ما مِن يَومٍ أَكْثَرَ مِن أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فيه عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِن يَومِ عَرَفَةَ، وإنَّه لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بهِمُ المَلَائِكَةَ، فيَقولُ: ما أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟” الراوي : عائشة أم المؤمنين | المحدث : مسلم | المصدر : صحيح مسلم الصفحة أو الرقم: 1348 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح] التخريج : أخرجه مسلم (1348).
اختار الله تعالى بعض الأيام لتكون أفضل من غيرها، وجعل هذه الأيام الفضيلة مواسم لرحماته وعطاياه لعباده. في هذه الأيام، يغفر الله الذنوب، ويرتقي بها درجات عباده، ويوم عرفة هو أحد أعظم هذه الأيام المباركة.
في هذا الحديث الشريف، يُعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن ما يحدث في يوم عرفة من مغفرة وعتق من النار أكثر بكثير مما يحدث في باقي الأيام. يوم عرفة هو موقع يقع على الطريق بين مكة والطائف، يبعد عن مكة بحوالي 22 كم، ويقع على مسافة 10 كم من منى و6 كم من مزدلفة. فيه يقف الحجاج في اليوم التاسع من ذو الحجة، يدعون الله تعالى ويستغفرونه.
وفي هذا اليوم، يقترب الله سبحانه وتعالى من عباده بالقرب الذي يليق بعظمته وجلاله، كما وصفه لنفسه دون أي تشبيه أو تمثيل. ثم يُباهي الله تعالى الملائكة بمن يقف في عرفة من المسلمين، فيظهر لهم فضلهم ويُريهم حسن أعمالهم ويثني عليهم بحضورهم. وأصل “الباهاء” هو الحسن والجمال، ويُفاخِرُ الله سبحانه وتعالى بهم أمام الملائكة ويعظمهم في حضرته.
ثم يسأل الله تعالى الملائكة: “ما أراد هؤلاء؟” أي: ما الذي دفع هؤلاء إلى ترك أهلهم وديارهم وإنفاق أموالهم والإرهاق بأجسادهم؟ والجواب ضمّنته المحبة، تقديره: “ما أرادوا إلا المغفرة والرضا”. وهذا يدل على أنهم قد غُفر لهم، لأن الله لا يُباهى إلا بمن تاب واستغفر.
في الحديث، نجد إثبات صفة الدنو لله تعالى بما يتناسب مع جلاله وعظمته، وكذلك إثبات صفة المباهاة لله سبحانه وتعالى، وهي من صفات الله التي تليق بعظمته وجلاله.
حكم صيام يوم عرفة
يوم عرفة هو يوم مبارك تتفتح فيه أبواب الرحمة والمغفرة، وهو فرصة عظيمة للمسلمين لزيادة حسناتهم وتكفير ذنوبهم. وقد وردت في الشريعة الإسلامية العديد من الأدلة التي تبين حكم صيام هذا اليوم، سواء كان المسلم حاجًا أو غير حاج.
حكم صيام يوم عرفة لغير الحاج
لقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: “صَومُ يومِ عَرَفةَ يُكفِّرُ سَنتَينِ؛ ماضيةً ومُستقبَلةً، وصَومُ عاشوراءَ يُكفِّرُ سَنةً ماضيةً.” الراوي : أبو قتادة الحارث بن ربعي | المحدث : شعيب الأرناؤوط | المصدر : تخريج المسند لشعيب | الصفحة أو الرقم : 22535 | التخريج : أخرجه مسلم (1162) مطولاً. من خلال هذا الحديث العظيم، يظهر فضل صيام يوم عرفة، حيث يُكفّر الله تعالى ذنوب سنتين: السنة الماضية والسنة القادمة. هذا يجعل صيام يوم عرفة من الأعمال المستحبة التي يُحب على المسلم الحرص على أدائها، لما فيها من مغفرة عظيمة للأخطاء والذنوب.
وقد أشار العلماء إلى فضل صيام يوم عرفة، فقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: “صيام يوم عرفة سنة مستحبة”. كما قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله: “صيام يوم عرفة سنة لغير الحاج”، ما يعكس إجماع العلماء على استحباب صيام هذا اليوم لغير الحاج. أما الإمام الشافعي رحمه الله، فقد ذكر في “الأم” قائلًا: “فأحب صومها إلا أن يكون حاجاً فأحب له ترك صوم يوم عرفة، لأنه حاج مضح مسافر، ولترك النبي صلى الله عليه وسلم صومه في الحج، وليقوى بذلك على الدعاء، وأفضل الدعاء يوم عرفة.”
حكم صيام يوم عرفة للحاج
أما بالنسبة للحاج، فقد اختلف العلماء في حكم صيام يوم عرفة له. والراجح في هذا الأمر هو ما ذكره الإمام الشافعي رحمه الله في كتابه “المختصر” حيث قال: “لا يصوم الحاج يوم عرفة”.
وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم يوم عرفة وهو في الحج، بل أفطر يوم عرفة في حجة الوداع. فقد ثبت في الحديث الصحيح: “أنَّ النَّاسَ شَكُّوا في صِيَامِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَومَ عَرَفَةَ، فأرْسَلَتْ إلَيْهِ بحِلَابٍ وهو واقِفٌ في المَوْقِفِ، فَشَرِبَ منه والنَّاسُ يَنْظُرُونَ.” الراوي : ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري الصفحة أو الرقم: 1989 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح].
“أن رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أَفْطَرَ بعرفةَ أُتِيَ بلبنٍ فشَرِبَ.” الراوي : لبابة بنت الحارث أم الفضل | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح ابن خزيمة | الصفحة أو الرقم : 2102.
ومن هذا المنطلق، يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله في “مجموع الفتاوى”: “أجمع العلماء على أن الحاج لا يصوم يوم عرفة”، وهو ما يدل على أن هذه هي السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
حكم صيام يوم عرفة في أيام العيد في حال الاختلاف في يوم عرفة والأضحى
من الأمور التي قد يختلط فيها الأمر على بعض المسلمين هي مسألة صيام يوم عرفة إذا صادف أيام العيد. والواقع أن صيام يوم عرفة لا يتزامن مع أيام العيد. فقد ثبت لدى المحققين من علماء الأمة أن اختلاف المطالع له اعتبار شرعي، وهو أمر ينطبق على جميع الأشهر الهجرية. ومن المعروف أن هناك تفاوتًا ملحوظًا بين المطالع، مما يوجب أخذ هذا الاختلاف بعين الاعتبار. وما يؤكد هذا المبدأ هو ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن كريب مولى ابن عباس أن أم الفضل بنت الحارث بعثته في حاجة إلى معاوية بالشام، قال: “فقدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل علي رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس ثم ذكر الهلال، فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه يوم الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، فقلت: فلا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.“
وبناءً على ذلك، لا يقع اللوم على المسلمين إذا اختلفوا في بداية شهر الصوم أو نهايته، وكذلك في تحديد يوم عرفة ويوم العيد، طالما أن المطالع بينهم مختلفة. فالعبرة في دخول الشهر تعتمد على رؤية الهلال أو إتمام الشهر ثلاثين يومًا. وبالتالي، يكون يوم عرفة ويوم العيد في مكة مختلفين عن يوم عرفة ويوم العيد في مناطق أخرى ذات مطالع مختلفة، كالشام أو غيرها. وإذا تأخرت رؤية الهلال في تلك المناطق مقارنةً بمكة، فلا يمكن القول أنهم صاموا يوم عرفة في يوم العيد، لأن يوم العيد لم يدخل لديهم بعد حتى يُعتبروا قد صاموا في هذا اليوم.
أما بالنسبة لأهل البلد الواحد الذين يتحدون في المطالع، فيجب عليهم أن يتوحدوا في صيامهم وعيدهم إذا رأوا الهلال أو أكملوا الشهر، فيصومون ويضحون في نفس اليوم بناءً على رؤية الهلال أو إكمال شهرهم. ولا يصح لهم أن يوافقوا أهل البلد الآخر، كما لا يجوز لهم أن يختلفوا ويتفرقوا في هذه الحالة. لما ثبت في سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “الصومُ يومَ تصومون ، والفطرُ يومَ تفطرون ، والأضحى يومُ تُضَحُّونَ.” الراوي : أبو هريرة | المحدث : ابن كثير | المصدر : إرشاد الفقيه | الصفحة أو الرقم : 280/1 | التخريج : أخرجه الترمذي (697) واللفظ له، وابن ماجه (1660).
الدعاء في يوم عرفة
إن موقف عرفة من أعظم المواقف التي يجب على المسلم أن يوليها اهتمامًا كبيرًا في الدعاء، فيدعو بصدق وإخلاص. ويستحب له أن يتوجه إلى الله بالدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، بالإضافة إلى الدعاء بما شاء من خير، فإن هذا اليوم هو يوم عظيم تجاب فيه الدعوات. ففي الموطأ عن طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له.” وروى الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.“والحديث حسنه الألباني.
قال في تحفة الأحوذي على سنن الترمذي عند شرح هذا الحديث: ولا يخفى أن عبارة هذا الحديث لا تقتضي أن يكون الدعاء قوله لا إله إلا الله.. إلخ بل المراد أن خير الدعاء ما يكون يوم عرفة أي دعاء كان وقوله وخير ما قلت إشارة إلى ذكر غير الدعاء فلا حاجة إلى جعل ما قلت بمعنى ما دعوت ويمكن أن يكون هذا الذكر توطئة لتلك الأدعية لما يستحب من الثناء على الله قبل الدعاء.
مما يدل على عظم فضل هذا اليوم وفضيلة الدعاء فيه. وكان الصحابة رضوان الله عليهم يحثون على الدعاء في هذا اليوم المبارك، ومما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من الدعاء في هذا اليوم ما روى الترمذي عن علي بن أبي طالب قال: أكثر ما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة في الموقف اللهم لك الحمد كالذي نقول وخيرا مما نقول، اللهم لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي وإليك مآبي ولك رب تراثي، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ووسوسة الصدر وشتات الأمر، اللهم إني أعوذ بك من شر ما يجئ به الريح. قال هذا حديث غريب من هذا الوجه وليس إسناده بالقوي، قال النووي في المجموع بعد أن ذكر هذا الحديث: وحديث عمرو بن شعيب المتقدم، وإسناد هذين الحديثين ضعيف. لكن معناهما صحيح، وأحاديث الفضائل يعمل فيها بالأضعف كما سبق مرات، ويكثر من التلبية رافعاً بها صوته ومن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن يأتي بهذه الأذكار كلها فتارة يهلل وتارة يكبر وتارة يسبح وتارة يقرأ القرآن وتارة يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وتارة يدعو وتارة يستغفر ويدعو مفرداً، وفي جماعة وليدع لنفسه ولوالديه ومشائخه وأقاربه وأصحابه وأصدقائه وأحبائه وسائر من أحسن إليه وسائر المسلمين، وليحذر كل الحذر من التقصير في شيء من هذا، فإن هذا اليوم لا يمكن تداركه بخلاف غيره. وينبغي أن يكرر الاستغفار والتلفظ بالتوبة من جميع المخالفات مع الندم بالقلب، وأن يكثر البكاء مع الذكر والدعاء، فهناك تسكب العبرات وتستقال العثرات وترتجى الطلبات، وإنه لمجمع عظيم وموقف جسيم يجتمع فيه خيار عباد الله الصالحين وأوليائه المخلصين والخواص من المقربين، وهو أعظم مجامع الدنيا، وقد قيل إذا وافق يوم عرفة يوم جمعة غفر لكل أهل الموقف…
إلى أن قال: ومن الأدعية المختارة: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً كبيراً، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني رحمة أسعد بها في الدارين وتب علي توبة نصوحاً لا أنكثها أبداً وألزمني سبيل الاستقامة لا أزيغ عنها أبداً، أللهم انقلني من ذل المعصية إلى عز الطاعة، واكفني بحلالك عن حرامك واغنني بفضلك عمن سواك، ونور قلبي وقبري، واغفر لي من الشر كله، واجمع لي الخير، اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم يسرني لليسرى وجنبني العسرى، وارزقني طاعتك ما أبقيتني، أستودعك مني ومن أحبابي والمسلمين أدياننا وأماناتنا وخواتيم أعمالنا، وأقوالنا وأبداننا وجميع ما أنعمت به علينا.
الاستغفار في يوم عرفة
الاستغفار في يوم عرفة له مكانة عظيمة، حيث يُستحب أن يكثر المسلم من الاستغفار في هذا اليوم المبارك. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: “سَيِّدُ الِاسْتِغْفارِ أنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أنْتَ رَبِّي لا إلَهَ إلَّا أنْتَ، خَلَقْتَنِي وأنا عَبْدُكَ، وأنا علَى عَهْدِكَ ووَعْدِكَ ما اسْتَطَعْتُ، أعُوذُ بكَ مِن شَرِّ ما صَنَعْتُ، أبُوءُ لكَ بنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وأَبُوءُ لكَ بذَنْبِي فاغْفِرْ لِي؛ فإنَّه لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أنْتَ. قالَ: ومَن قالَها مِنَ النَّهارِ مُوقِنًا بها، فَماتَ مِن يَومِهِ قَبْلَ أنْ يُمْسِيَ، فَهو مِن أهْلِ الجَنَّةِ، ومَن قالَها مِنَ اللَّيْلِ وهو مُوقِنٌ بها، فَماتَ قَبْلَ أنْ يُصْبِحَ، فَهو مِن أهْلِ الجَنَّةِ.” الراوي : شداد بن أوس | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري الصفحة أو الرقم: 6306 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح] التخريج : من أفراد البخاري على مسلم. في يوم عرفة، يحرص المسلمون على التوبة والاستغفار، سائلين الله عز وجل أن يغفر لهم ذنوبهم ويعتق رقابهم من النار.
إجابة الدعاء في يوم عرفة
يعتبر يوم عرفة من أفضل الأيام التي يُستجاب فيها الدعاء. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: “ما مِن يَومٍ أَكْثَرَ مِن أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فيه عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِن يَومِ عَرَفَةَ، وإنَّه لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بهِمُ المَلَائِكَةَ، فيَقولُ: ما أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟” الراوي : عائشة أم المؤمنين | المحدث : مسلم | المصدر : صحيح مسلم الصفحة أو الرقم: 1348 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح] التخريج : أخرجه مسلم (1348). ويُستحب للمسلم أن يرفع يديه بالدعاء في هذا اليوم ويطلب من الله تعالى ما يشاء من الخير. ولهذا، فإن الدعاء في هذا اليوم يعتبر من أوقات استجابة الدعاء.
العشر من ذو الحجة وصيام يوم عرفة
العشر من ذو الحجة هي الأيام المباركة التي يشملها شهر ذو الحجة، ويعد صيام يوم عرفة جزءًا من الأعمال الصالحة التي يتم التركيز عليها في هذه الأيام. عن ابن عباس رضي الله عنه قال: “ما العَمَلُ في أيَّامٍ أفْضَلَ منها في هذه، قالوا: ولا الجِهادُ؟ قالَ: ولا الجِهادُ، إلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخاطِرُ بنَفْسِه ومالِه، فلَمْ يَرْجِعْ بشَيءٍ.” (رواه البخاري). الراوي : عبدالله بن عباس | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري الصفحة أو الرقم: 969 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح] التخريج : أخرجه البخاري (969).
تعد العشر الأوائل من ذو الحجة فرصة عظيمة لتقرب المسلمين إلى الله تعالى، حيث يُستحب فيها أداء المزيد من الأعمال الصالحة مثل الصلاة، الصيام، والصدقة. صيام يوم عرفة هو أبرز عمل صالح في هذه الأيام، ولهذا يجب على المسلم استغلال هذه الفرصة العظيمة.
الخاتمة: حكم صيام يوم عرفة
في الختام، يعد يوم عرفة من أعظم الأيام في الشريعة الإسلامية، وهو يوم يحرص المسلمون على اغتنامه بالطاعات والعبادات. فقد خصه الله تعالى بفضائل كبيرة وأجر عظيم، من أبرزها مغفرة الذنوب وعتق الرقاب من النار. ومن خلال الحديث عن حكم صيام يوم عرفة، يتبين لنا أن هذا اليوم يحمل في طياته فرصًا عظيمة للتوبة والمغفرة، سواء للحجاج الذين يؤدون مناسك الحج، أو لغير الحجاج الذين يحرصون على صيامه.
وقد بينت الأدلة الشرعية من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة أن صيام يوم عرفة له فضائل كبيرة، حيث يكفر الله تعالى عن المسلم ذنوب سنتين: السنة الماضية والسنة القادمة. كما أن الدعاء في هذا اليوم مستجاب، حيث يتقرب المسلمون إلى الله بالتوبة والدعاء، سائلين إياه المغفرة والرحمة.
وفيما يخص حكم صيام يوم عرفة بالنسبة للحجاج، فقد بيّن العلماء أنه يُستحب للحاج أن يفطر في هذا اليوم ليتمكن من الاستعداد للدعاء والتضرع إلى الله. أما بالنسبة لغير الحاج، فيستحب لهم صيام هذا اليوم لما له من أجر عظيم وفضل كبير. كما أن اختلاف المطالع بين البلدان في تحديد يوم عرفة ويوم العيد يعد أمرًا مشروعًا في الشريعة، حيث يُعتبر اعتبار رؤية الهلال أو إتمام الشهر هو المعيار في تحديد بداية الشهر.
وفي النهاية، لا ينبغي للمسلم أن ينسى أهمية يوم عرفة في حياته، فهو يوم مبارك تتفتح فيه أ