شهر رمضان هو شهر اختصّه الله سبحانه وتعالى بجعل الصيام فيه عبادةً مفروضة على كل مسلم بالغٍ عاقل، لما له من أثرٍ عظيم في تزكية النفوس وتقوية الصلة بالله. إن الصيام عبادةٌ قديمة فرضها الله على الأمم السابقة كما فرضها على أمة محمد ﷺ، وذلك لتحقيق غايات جليلة تتجلى في تقوى الله والابتعاد عن الشهوات، قال الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” [البقرة: 183].
ويحظى شهر رمضان بمكانة عظيمة في الإسلام، فهو ليس مجرد فترة زمنية للصيام، بل هو شهر أنزل الله فيه القرآن، مما يزيد من فضل هذا الشهر وبركته. قال الله تعالى: “شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ” [البقرة: 185]. وقد أشار الإمام ابن كثير رحمه الله إلى أن شهر رمضان تميز بنزول القرآن فيه، وأن هذه النعمة العظيمة تستدعي شكر الله عليها بالعبادة، لذا جعل الله الصيام فيه فرضًا على الأمة المسلمة [تفسير ابن كثير].
وفي الحديث الشريف، قال رسول الله ﷺ: “إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أبْوَابُ الجَنَّةِ، وغُلِّقَتْ أبْوَابُ جَهَنَّمَ، وسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ” الراوي : أبو هريرة | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري الصفحة أو الرقم: 3277 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح] التخريج : أخرجه البخاري (3277)، ومسلم (1079).
ممّا يدلّ على أن شهر رمضان هو فرصة للتوبة وتجديد الإيمان، إذ يُبعد الله فيه المسلم عن وساوس الشياطين ويقربه من رحمته وفضله.
وفي صيام رمضان تعلو النفوس وتسمو القلوب بالخشوع والخضوع لله، فتبتعد عن الملذات والشهوات من أجل تحقيق مرضاته. قال الحسن البصري رحمه الله: “الصوم حبس النفس عن الشهوات، واللسان عن المكاره، وعزم الأمور على طاعة الله“، وهذا يدلّ على أهمية الصيام في تهذيب النفس وتقوية الإرادة.
هكذا يظهر بجلاء أن تخصيص الصيام لشهر رمضان جاء لتحقيق مقاصد عظيمة ترفع من شأن المؤمن وتزيد من قربه من الله، وتجعله يعيش حياة منضبطة تدفعه إلى كل خير، وتبعده عن كل شر.
الصيام كعبادة خاصة في الإسلام
يعتبر الصيام عبادة عظيمة وركنًا من أركان الإسلام الخمسة، حيث فرضه الله سبحانه وتعالى على المسلمين كافة، لما فيه من تزكية للنفوس وتهذيب للأخلاق وتوطيد للعلاقة بين العبد وربه. يقول الله تعالى في كتابه الكريم: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” [البقرة: 183]. هذه الآية الكريمة توضح أن الصيام ليس عبادة جديدة، بل كان مفروضًا على الأمم السابقة، مما يشير إلى أهميته وعلو منزلته عند الله.
وفي الحديث القدسي، قال الله عز وجل: “قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: قالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ له، إلَّا الصِّيَامَ؛ فإنَّه لي، وأَنَا أجْزِي به، والصِّيَامُ جُنَّةٌ، وإذَا كانَ يَوْمُ صَوْمِ أحَدِكُمْ فلا يَرْفُثْ ولَا يَصْخَبْ، فإنْ سَابَّهُ أحَدٌ أوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ. والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِن رِيحِ المِسْكِ. لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إذَا أفْطَرَ فَرِحَ، وإذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بصَوْمِهِ.” الراوي : أبو هريرة | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري الصفحة أو الرقم: 1904 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح] التخريج : أخرجه مسلم (١١٥١) باختلاف يسير.
شرح الحديث
وقد علق العلماء على هذا الحديث بأن الصيام عبادة عظيمة تتميز بكونها خالصة بين العبد وربه، لا يطلع عليها أحدٌ سوى الله، ولا يدرك حقيقة الامتناع عن الشهوات والجوع والعطش إلا الله سبحانه. فكل أعمال ابن آدم الأخرى قد يُطّلع عليها الناس، ويُدرك ثوابها، وقد يحصل العبد على حظٍّ منها في الدنيا، كالشكر والثناء من الخلق. أما الصيام، فهو عبادة سرية خالصة لله وحده، إذ يدع المسلم طعامه وشرابه وشهواته في سبيل الله، ولذا قال الله تعالى في الحديث القدسي: “إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به”. وهذا يعني أن الله وحده يتولى جزاء الصيام، ويضاعف أجره بلا حدود، بل إن الصيام يُجزى عليه من واسع عطاء الله ورحمته، بخلاف غيره من الأعمال التي حدد الله ثوابها وجعلها تُضاعف من عشر إلى سبعمئة ضعف.
وقد جاء في حديث آخر عن النبي ﷺ: “كلُّ عملِ ابنِ آدمَ يُضاعفُ ؛ الحسنةُ بعشرِ أمثالِها ، إلى سَبْعِمائةِ ضِعفٍ ، قال اللهُ تعالى :إِلَّا الصَّوْمَ ؛ فإنَّه لِي ، وأنا أجزي به ، يَدَعُ شهوتَه وطعامَه من أجلِي ، وللصائمِ فرْحتانِ : فرحةٌ عند فِطرِه ، وفرحةٌ عند لقاءِ ربِّه ، ولَخَلُوفُ فمِ الصائمِ ، أطيبُ عند اللهِ من ريحِ المِسكِ” الراوي : أبو هريرة | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح الترغيب | الصفحة أو الرقم : 978 | خلاصة حكم المحدث : صحيح | التخريج : أخرجه ابن ماجه (1638) واللفظ له، وأخرجه البخاري (1904)، ومسلم (1151) باختلاف يسير.
هذه الخصوصية للصيام تجعله عبادة ذات منزلة خاصة عند الله، حيث تولى سبحانه وتعالى بنفسه جزاءها ولم يوكله إلى الملائكة، مما يدل على عظمة هذه العبادة ورفعة قدرها عند الله.
ثم يخبر النبي ﷺ في الحديث أن “الصيام جُنّة”، أي أنه وقاية وحصن حصين يحمي المسلم من المعاصي والذنوب في الدنيا، ويقيه من النار في الآخرة. وهذه الجُنّة تتجلى في إحساس الصائم بالخشية والخشوع، وبعلاقته القوية مع الله، فيتجنب كل ما يغضب ربه من قول أو فعل.
ثم ينهى النبي ﷺ الصائم عن الرفث والصخب، أي عن الفحش في الكلام والصياح والخصام، حتى إذا تعرض للشتائم أو المواجهة، قال: “إني صائم”، ليكفَّ خصمه عنه، أو ليستشعر ذلك في قلبه فيبتعد عن الخصام. وهذا النهي يعكس أهمية التزام الصائم بالأخلاق الفاضلة، ليس فقط بالكف عن الطعام والشراب، بل بكف جوارحه عن الآثام، مما يزيد من أثر الصيام في تطهير النفس وتهذيبها.
ثم يقسم النبي ﷺ قائلاً: “والذي نفس محمد بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك”، والخلوف هنا هو تغيّر رائحة فم الصائم بسبب خلو معدته من الطعام، وهذه الرائحة وإن كانت مكروهة عند الناس، فهي عند الله طيبة، وبهذا يظهر شرف الصيام ومقامه العالي عند الله. إن هذه الرائحة تصبح علامة تُنَمُّ على طاعة العبد وإخلاصه، وهي دليل على أن الصيام عبادة يثني الله على صاحبها علنًا يوم القيامة، مما يدل على الكرامة العظيمة التي يمنحها الله للصائمين.
ويضيف الحديث أن للصائم فرحتين عظيمتين: فرحة عند إفطاره، وفرحة عند لقاء ربه. أما فرحة الإفطار، فهي فرحة بزوال الجوع والعطش، وشعوره بإتمام طاعة الله، وهذه الفرحة تختلف في مقاماتها بحسب درجة الصائمين. وأما الفرحة الكبرى، فهي عند لقاء الله يوم القيامة، حيث يفرح الصائم برؤية جزاء صيامه والرضا الذي يناله من ربه، فهو يوم الجزاء والثواب الذي يختص الله به الصائمين.
وهكذا، يُعدّ الصوم عبادة يتفرّد فيها العبد عن الدنيا وشهواتها، فلا تُفسدها الآثام، ولا يطلع عليها إلا الله، فتبلغ منزلة عالية بين سائر العبادات.
وقد فسر السلف الصالح هذه العبادة بأن المقصد منها هو تقوى الله والخشوع له. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “إن الصوم هو مدرسة التقوى، إذ يحبس النفس عن الشهوات ويقوي الإرادة ويعلم العبد الصبر على الطاعات وترك المعاصي” [زاد المعاد]. فالصيام ليس فقط امتناعًا عن الطعام والشراب، بل هو كف النفس عن المحرمات وتوجيهها نحو الطاعات، وفيه تدريب للنفس على الصبر والتحمل.
كما أشار الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إلى فضل الصيام بقوله: “إذا كنت صائمًا فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحرمات، ولا تجعل يوم صومك كيوم فطرك” [رواه البيهقي]. يظهر من هذا القول أن الصيام يشمل تربية الجوارح وإبعادها عن كل ما يغضب الله، فيرتقي المسلم في درجات التقوى والطاعة.
إن الله سبحانه وتعالى قد جعل الصيام وسيلة لتقوية العلاقة بين العبد وربه، فهو لا يقتصر على الجانب المادي من الامتناع عن الأكل والشرب، بل يتعداه إلى الجانب الروحي، حيث يعلم المسلم الصبر والتقوى والتقرب إلى الله. فهذه العبادة تحقق مقاصد عظيمة وترفع من مكانة المسلم، مما يجعل الصيام في رمضان عبادة خاصة لها منزلة سامية في الإسلام.
لماذا خص الله شهر رمضان بالصيام؟
إن تخصيص الله عز وجل شهر رمضان بفريضة الصيام يحمل حكمة عظيمة وغايات نبيلة، فقد جعل الله هذا الشهر الفضيل شهر عبادة وروحانية، واختصه بمضاعفة الأجر وتنقية النفوس، وتربية المسلمين على الصبر والتقوى، وتعويدهم على الطاعة والانضباط.
قال الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” [البقرة: 183]. هذه الآية الكريمة توضح أن الهدف الأسمى من فرض الصيام هو تحقيق التقوى؛ أي الوصول إلى حالة من الخشوع والانقياد لله سبحانه وتعالى، وتدريب النفس على مراقبة الله في السر والعلن، واجتناب المعاصي.
1. علاقة الصيام بنزول القرآن في شهر رمضان
إن من أعظم الحكم في تخصيص الصيام لشهر رمضان هو ارتباط هذا الشهر بنزول القرآن الكريم. قال الله عز وجل: “شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ” [البقرة: 185]. وهنا نرى أن هذا الشهر مميز بنزول كتاب الله الذي يعتبر هداية ونورًا للعالمين، فكان الصيام في هذا الشهر المبارك عبادة تُذكر المؤمنين بقيمة الوحي الإلهي وتحثهم على العودة إلى القرآن والتدبر فيه.
وقد أشار الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره للآية الكريمة [البقرة: 185] إلى أن الله تعالى يمدح شهر رمضان، ويختصه بفضل عظيم، إذ جعله الشهر الذي أنزل فيه القرآن العظيم، وجعل فيه الصيام ليكون وسيلةً للتقرب إلى الله وتعزيز الارتباط بالوحي. وقد قال الإمام ابن كثير: “إن الله اختار هذا الشهر من بين الشهور لإنزال القرآن، كما أن الكتب الإلهية الأخرى نزلت فيه على الأنبياء” [تفسير ابن كثير].
ويؤكد هذا المعنى حديث رسول الله ﷺ الذي رواه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، عن واثلة بن الأسقع، أن رسول الله ﷺ قال: “أُنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأُنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان” [رواه الإمام أحمد]. كما ورد عن جابر بن عبد الله أن الزبور أنزل في الثاني عشر من رمضان، والإنجيل في الثامن عشر، والباقي كما تقدم [رواه ابن مردويه].
أما القرآن فقد نزل جملةً واحدةً من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا في ليلة القدر في شهر رمضان، كما قال تعالى: “إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ” [القدر: 1]، وقال: “إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ” [الدخان: 3]. ثم نزل القرآن مفرقًا بحسب الوقائع والأحداث على رسول الله ﷺ.
وقد نقل ابن عباس رضي الله عنهما أنه لما سأله عطية بن الأسود عن قول الله تعالى: “شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن”، قال ابن عباس: “إنه أنزل جملة واحدة في ليلة القدر إلى السماء الدنيا، ثم نزل مفرّقًا بحسب الوقائع على مواقع النجوم على رسول الله ﷺ في الشهور والأيام” [رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه].
وفي رواية أخرى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: “أنزل القرآن في النصف من شهر رمضان إلى سماء الدنيا، فجعل في بيت العزة، ثم أنزل على رسول الله ﷺ في عشرين سنة لجواب كلام الناس” [رواه ابن مردويه].
وقد قال ابن عباس في رواية عن عكرمة: “نزل القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر إلى السماء الدنيا جملة واحدة، وكان الله يحدث لنبيه ما يشاء، ولا يجيء المشركون بمثل يخاصمون به إلا جاءهم الله بجوابه، وذلك قوله: “وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا(32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)” [الفرقان: 32–33].
2. الصيام وسيلة لتحقيق التقوى والطاعة
كما أن تخصيص الصيام في رمضان يهدف إلى تحقيق التقوى، وهي الغاية الكبرى التي يريد الله عز وجل من عباده أن يصلوا إليها. يقول الله تعالى: “لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” [البقرة: 183]، بمعنى أن الصيام يقود إلى التقوى من خلال الامتناع عن الشهوات وتدريب النفس على الانضباط. يقول الإمام السعدي رحمه الله: “التقوى هي امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، والصيام هو مدرسة لتعلم الصبر والتقوى والإخلاص” [تفسير السعدي].
ويأتي في الحديث القدسي عن رسول الله ﷺ، أن الله عز وجل يقول: “يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ كلُّ عمَلِ ابنِ آدمَ له إلا الصيامَ فهو لِي وأنا أجزِي بِهِ إنَّمَا يتْرُكُ طعامَهَ وشَرَابَهُ مِن أجْلِي فصيامُهُ لَه وأنا أجزِي بِه كلُّ حسنةٍ بعشرِ أمثالِهَا إلى سبعمائِةِ ضعفٍ إلا الصيامَ فهو لِي وأنا أجزِي بِهِ” الراوي : أبو هريرة | المحدث : أحمد شاكر | المصدر : تخريج المسند لشاكر | الصفحة أو الرقم : 13/239 | خلاصة حكم المحدث : صحيح | التخريج : أخرجه البخاري (1894)، ومسلم (1151)، والترمذي (764)، والنسائي (2215)، وابن ماجه (1638)، وأحمد (7494) واللفظ له.
هذا الحديث يعزز مفهوم التقوى في الصيام، إذ أن الامتناع عن الطعام والشراب والشهوة هو ابتعاد عن الرغبات الأساسية طاعةً لله، مما ينمي في النفس الإخلاص والقرب من الله.
3. الصيام يُعزز الصبر والانضباط
وقد خص الله شهر رمضان بالصيام ليكون وسيلةً لتربية المؤمنين على الصبر وضبط النفس. فالصيام يعلم الصبر من خلال الامتناع عن الملذات، ويتدرب المسلم على مقاومة شهواته وإرغام نفسه على الطاعة. قال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “الصيام نصف الصبر” [رواه الطبراني]. والصبر هو من أعظم الأخلاق التي تعين المسلم على مواجهة صعوبات الحياة.
وجاء عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: “الصوم حبس النفس عن الشهوات، واللسان عن المكاره، وعزم الأمور على طاعة الله”، وهنا يُبرز الصيام كوسيلة لتحقيق الصبر والهدوء النفسي والابتعاد عن المحرمات.
4. الصيام يزيد من الإحساس بالفقراء والمحتاجين
ومن الحكمة في تخصيص شهر رمضان بالصيام هو إشعار المسلم بأحوال الفقراء والمحتاجين. فعندما يمر الصائم بمرحلة الجوع والعطش، يتذكر حال الذين يعيشون الفقر والحرمان طوال السنة، وهذا يزرع في قلبه الرحمة والرغبة في مساعدة الآخرين.
وقد ورد عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قوله: “كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أجودَ الناسِ بالخيرِ ، وكان أجودَ ما يكون في شهرِ رمضانَ حتى ينسلِخَ ، فيأتيه جبريلُ فيعرضُ عليه القرآنَ ، فإذا لقِيَه جبريلُ كان رسولُ اللهِ أجودَ بالخيرِ من الرِّيحِ الْمُرسَلَةِ” الراوي : عبدالله بن عباس | المحدث : الألباني | المصدر : مختصر الشمائل | الصفحة أو الرقم : 303 | خلاصة حكم المحدث : صحيح | التخريج : أخرجه البخاري (6)، ومسلم (2308) باختلاف يسير.
فالصيام يوقظ في النفس الشعور بالآخرين ويحث المسلم على البذل والعطاء.
5. الصيام كوسيلة لتطهير النفس من الذنوب
يعتبر الصيام وسيلة لتكفير الذنوب وتطهير النفس من الخطايا. فقد قال رسول الله ﷺ: “مَن صامَ رَمَضانَ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ، ومَن قامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ” الراوي : أبو هريرة | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري | الصفحة أو الرقم : 2014 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح] | التخريج : أخرجه البخاري (2014)، ومسلم (760).
وهذا الحديث يؤكد أن الصيام في رمضان ليس فقط عبادة، بل هو وسيلة لمغفرة الذنوب وزيادة الأجر، مما يشجع المسلمين على استغلال هذا الشهر للتوبة والرجوع إلى الله.
وذكر الإمام ابن القيم رحمه الله: “الصوم يطهر النفس ويزكيها، ويحررها من سيطرة الشهوات، ويجعلها في حالة من الصفاء الروحي” [زاد المعاد]. وهذا الصفاء الذي يحققه الصيام يساعد المسلم على التقرب إلى الله، وتخليص النفس من الذنوب.
6. تخصيص الصيام في رمضان كوسيلة للتقرب إلى الله
وأخيرًا، إن تخصيص شهر رمضان بالصيام يهدف إلى تعزيز العلاقة بين العبد وربه، فالصيام عبادة خالصة لله لا يعلم حقيقتها إلا الله، إذ يمتنع فيها العبد عن الأكل والشرب والشهوات طاعةً لله وحده. قال رسول الله ﷺ: “الصِّيَامُ جُنَّةٌ فلا يَرْفُثْ ولَا يَجْهلْ، وإنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِن رِيحِ المِسْكِ. يَتْرُكُ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ وشَهْوَتَهُ مِن أجْلِي الصِّيَامُ لِي، وأَنَا أجْزِي به والحَسَنَةُ بعَشْرِ أمْثَالِهَا” الراوي : أبو هريرة | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري | الصفحة أو الرقم : 1894 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح] | التخريج : أخرجه مسلم (1151) بنحوه.
وهذا الحديث يوضح أن الصيام ليس فقط امتناعًا عن الطعام، بل هو امتناع عن جميع ما يغضب الله، مما يرفع المؤمن إلى مراتب عالية من الإخلاص والتقوى.
نزول القرآن في شهر رمضان وعلاقته بالصيام
إن نزول القرآن في شهر رمضان يضفي على هذا الشهر طابعًا خاصًا، فقد أنزل الله عز وجل القرآن فيه ليكون هداية للعالمين، مما يعزز من أهمية الصيام في هذا الشهر الكريم. قال تعالى: “شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ” [البقرة: 185]. وقد فسر الإمام ابن كثير رحمه الله هذه الآية بقوله: “إن شهر رمضان هو الشهر الذي اختاره الله لنزول القرآن، مما يدل على عظم مكانة هذا الشهر وفضل الصيام فيه كعبادة تقرب المؤمن إلى الله وتجعله متصلًا بكلامه تعالى” [تفسير ابن كثير].
وكان الصحابة رضوان الله عليهم يتأثرون عميقًا بهذا الشهر الكريم، ويحرصون على تلاوة القرآن والتدبر فيه. فقد ورد عن الإمام مالك بن أنس رحمه الله قوله: “كان السلف إذا دخل رمضان أقبلوا على تلاوة القرآن، وأعرضوا عن الحديث والفقه” [المدونة]. وكان ابن عباس رضي الله عنه يكثر من تلاوة القرآن في رمضان ويكمل ختمته في أيام قليلة لفضل هذا الشهر المبارك.
فضل الصيام في رمضان وأثره على الروح
الصيام في رمضان هو وسيلة عظيمة لتزكية النفس وتنقيتها من الذنوب. قال رسول الله ﷺ: “مَن صامَ رَمَضانَ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ، ومَن قامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ” الراوي : أبو هريرة | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري | الصفحة أو الرقم : 2014 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح] | التخريج : أخرجه البخاري (2014)، ومسلم (760).
وقد ورد عن التابعي الحسن البصري رحمه الله قوله: “إن الله جعل الصوم وسيلة لتنقية القلوب من أمراضها وتصفية النفوس من الشهوات، ليعود العبد إلى خالقه بنفس طاهرة” [إحياء علوم الدين].
ويشير الإمام الشافعي رحمه الله إلى أهمية الصيام في تنمية التقوى بقوله: “الصوم مدرسة التقوى، فكلما صام العبد وابتعد عن شهواته زادت رقابة الله في قلبه وخشوعه” [الأم].
وقد كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: “الصيام نصف الصبر، والصبر نصف الإيمان، والصوم يمحو الذنوب ويرفع الدرجات” [رواه الطبراني]. هذه الأقوال والأحاديث توضح كيف أن الصيام في رمضان يسهم في تطهير النفس وتهذيبها.
الفوائد الاجتماعية للصيام في رمضان
الصيام ليس عبادة فردية فقط، بل له فوائد اجتماعية عظيمة. إذ يساعد الصيام على زرع مشاعر الرحمة والتعاطف مع الآخرين، وخاصةً مع المحتاجين. وقد قال رسول الله ﷺ: “ليس المؤمنُ بالذي يشبعُ وجارُه جائِعٌ إلى جنبَيْهِ” الراوي : عبدالله بن عباس | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح الجامع الصفحة أو الرقم: 5382 | خلاصة حكم المحدث : صحيح التخريج : أخرجه أبو يعلى (2699)، وتمام في ((الفوائد)) (1262)، البخاري في الأدب المفرد، والبيهقي (20160) باختلاف يسير
ويقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: “إن الصوم يجعل الغني يشعر بحاجة الفقير، ويدفعه إلى العطاء والبذل” [مسند أحمد]. وكان الصحابة الكرام، كعبد الله بن عمر رضي الله عنهما، يشتهرون بإطعام الناس في رمضان والتصدق بوجبات الإفطار للفقراء.
أثر الصيام على النفس والجسد
كما أن للصيام فوائد على النفس والجسد، فهو يعود المؤمن على ضبط النفس والتحكم في شهواته. قال رسول الله ﷺ: “الصِّيَامُ جُنَّةٌ فلا يَرْفُثْ ولَا يَجْهلْ، وإنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِن رِيحِ المِسْكِ. يَتْرُكُ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ وشَهْوَتَهُ مِن أجْلِي الصِّيَامُ لِي، وأَنَا أجْزِي به والحَسَنَةُ بعَشْرِ أمْثَالِهَا”. وقد قال الإمام ابن تيمية رحمه الله عن هذا الحديث: “إن الصوم ليس مجرد امتناع عن الطعام، بل هو انضباط النفس وإبعادها عن الأفعال التي تغضب الله” [مجموع الفتاوى].
ويذكر الإمام السعدي رحمه الله: “الصيام يحرر الإنسان من شهوات الدنيا، ويعلمه الصبر والانضباط، ويقوي روحه ليكون أكثر قربًا من ربه” [تفسير السعدي].
ليلة القدر وأثرها على الصيام في رمضان
ليلة القدر هي من أعظم ليالي رمضان، وقد قال تعالى عنها: “إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)” [القدر: 1-5]. وقد خص الله الصيام في هذا الشهر الكريم ليكون إعدادًا روحيًا لاستقبال هذه الليلة العظيمة، التي من قامها إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه، كما قال رسول الله ﷺ في الحديث الشريف [رواه البخاري].
وكان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: “ليلة القدر هي ليلة الغفران والرحمة، والصيام في رمضان يجعل العبد مستعدًا للقيام فيها، فيتحقق له فضلها” [مسند أحمد].
الخاتمة – لماذا خص الله شهر رمضان بالصيام وما دور الصيام في حياة المسلم
في النهاية، يظهر بوضوح أن تخصيص شهر رمضان بالصيام يحمل حكمة عظيمة وأهدافًا سامية في تنقية النفس، وزيادة التقوى، وتعزيز الروابط الاجتماعية. الصيام في رمضان ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل هو مدرسة كاملة يتعلم فيها المسلم الصبر، والإخلاص، وحسن المعاملة، ويعود فيها إلى الله بنية صافية وقلب نقي.
والله أعلم